الأيام الصامتة

الأيام الصامتة

بقلم شهيد أنور النوراني

كان مساء ساكنا حين بقي جابر متأملا في غرفة الانتظار من مطار كاليكوت، ينتظر مع والدته وإخوته الصغار عودة والدهم من الخليج، لم يمرعلى ذهابه إلا ثلاثة أشهر حتى اضطر إلى الرجوع، ليس اشتياقه إلى حنان وطنه فحسب حمله على الإياب، بل ظل مترقبا إلى عدة أعمال لكن طال انتظاره دون جدوى، قد تركت جائحة كرونا أثرا بليغا في كل قطاعات العيش، قارن بين بقائه في غربة المهجر صفر اليدين وبين سكونه إلى ترنم قريته مطمئن البال حتى قرر العودة.

بدأ جابر يتجول في ساحة المطار بعد أن عرف أن إجراءات خروج والده من داخل غرفة التفتيش تستغرق ساعتين، كما هو العادة في عصر كرونا، كان يعتريه اضطراب داخلي مذ علم بمجيء أبيه، شعور غريب لا يمكنه الانفكاك عنه، راح يتردد في الحديقة كي يتخلص من ألم أفكاره، لم ترقه مناظر المطار، رغم عراقتها وإشراقتها ولم يشعر بمسيس الرياح الهادئة بنعومتها ولينها في نهاية الربيع الماتع، حتى أداه مشيه إلى حائط عريق يحدق ببستان المطار، وقف عنده وقفة تأمل، يلمسه بكفيه، طيف أفكار مرة لحقت بدماغه، كاد يفقد وعيه بضغوطها الصامتة، فما أشبهه بالعائق الذي يضعه والده بينه وبين أفراد عائلته، جعل يتسرب إلى ذهنه ذكرى لا يحلو تذكرها، رغم أنه يساكنهم في نفس العش، لكن قلما يثير كيانه أي أثر في أمورهم العامة والخاصة.

لم يتوجه إليه أو إلى أحد إخوته يوما ما بالسؤال عن أحوالهم ولا كيف تجري دراستهم ولا كيف هي امتحاناتهم، بل لا يكاد يدري في أي عام دراسي هم، بل انحصرت الأبوة في تسهيل المرافق المادية ولم يذهب عقله إلى توفير الجوانب المعنوية، أهم شيء في بناء الشخصية. وجود أمه ووقوفها الدائم بجانبه وجانب إخوته لم يكد يقع موقعا من كفايتهم لسد الفجوة البعيدة التي تفصلهم عن والدهم. لا يجلس معهم سوى على طاولة الغداء أو العشاء، لم يشاطر بعضهم هموم بعضهم ولم يشاركوا آمالهم فيما بينهم، يظل صامتا في أغلب الأحيان ريثما يتواجد في منزله، مضت السنين على أن طمعوا في رحلة ممتعة مع والدهم، حتى يتمكنوا من ذوق حنان والدهم و الوصول إلى داخله. لا يتكلم في بيته سوى مع زوجته وبكلمات بخيلة “والدك عانى كثيرا في طفولته بعد وفاة والدته وفقد حنان أمومتها فلم يسعه البيت حتى هرب منه كئيبا، ثم لم يعد إليه إلا وقد مضى عنفوان شبابه ،الفترة التي عاشها بعيدا عن بيته في العزلة وتعقيد الشوارع لعبت دورها في كيانه وطباعه، عدا ذلك كان لم يعش معك طويلا في طفولتك الباكرة بعد أن ترك وراءه كله، عائلته وبيته ورفقته، وتوجه إلى البلدان القاصية ليصل بين أطراف حياتهم ويفي احتياجاتهم، تحملا على عاتقه مسؤولية ترفيه أسرته” الكلمات التي ترددها والدته كلما اشتكاها بالأمر، ربما تكون صادقة، لا جرم أنه عانى من حياة متشردة في ضواحي الشوارع الغريبة.. تدور في ذاكرته صورة أم تركته في صباح حياته حتى لم يكد يسغه العيش مع آلام فراق أمه ولم يتمكن من أن يستنشق الهواء الريفي في شبابه.. ولكنه لم يفهم معنى تأثير فراق أبيه من طفولته في بروز الحجاب الساكت بينه وبين أبيه، مع أن إخوته الصغار لم يفتهم العيش مع أبيهم منذ نعومة أظفارهم، الأمر الذي شوش عقله وانتهى أخيرا إلى وقع السبب الأول في سلوكيات أبيه.

واصل المشي في طرق الحديقة المفعمة بالأزهار الباسمة حتى وصل إلى منتصف الحديقة المتألقة برونقها السحري، لم يلبث أن يرمق الأزهار بنظرات متفائلة حتى علق بداخله بصيص أمل ولمعان رجاء، سيأتي شهر الود والحنان، لم يبقى أمامه إلا أيام لينتهي الشوق ويحقق مبتغاه، كان لم يحظ بوجود أبيه في رمضان بعد أن غادر أبوه بيته سعيا وراء العمل منذ بلوغه سن التمييز. وهذه المرة بدت الجائحة عائقة أمام أبيه وضغطت عليه بالعودة، حتى يتسنى له قضاء حياة جميلة مع أبيه إن حالفه التوفيق، رسم جابر الخطط المستقبلية في داخله. كان قد لاحظ أن صديقه أحمد كيف قضى عيشه مع أبيه في رمضان السابق، في رغد وسعادة، يتجول مع أبيه في الأسواق حاملا بيده كيسات الفواكه والحلويات، يمشي وراء أبيه إلى المسجد عندما يقرع أذنيه صدى الأذان، مستلهما أبوته ومتفاهما أمنه في ظل أبيه، تراكمت الأفكار في دماغه وهو يلاحظ شقوق جدار الحائط الصغيرة، بينما يعتري قلبه بريق الأمل وبصمات الخيبة. ولم يصل إلى نهاية الحديقة حتى أزال عن ذاكرته الفكرات المبعثرة نداء أخيه بوصول أبيه، رجع جابر إلى السيارة مطرقا رأسه من ثقل أفكاره القاتلة، ومتفائلا في نفس الوقت، رجاء أن يرى أباه في بشاشة وصفاء، لكن النتيجة لم تحِد عن عادتها، والده يأتي إليهم كأنه غادر في صباح اليوم، لم يتحدث معهم إلا كلمتين، يحمل بيديه علبتين بسيطتين، ثم أخذ يمشي نحو السيارة، بدأت السيارة تتحرك وتواصل مسيرتها إلى بيته، والده يحدق نظره الى جواله، يقلب الشاشة بإصبعه، وما إن وصلت السيارة إلى بيته أسرع جابر إلى غرفته، لم يستلق على السرير حتى سقط إلى هاوية من النوم عاجزا من هضم أفكاره المتشردة.

وفي صباح اليوم التالي، جلس مع صديقه أحمد، الذي أصبح أكثر من أخ شقيق له، يتبادل معه شكواه ويعرب عما يختلج في داخله “ربما يكون والدك أيضا يشعر بنفس الآلام، قد تكون الظنون بدت حاجزة بينكم” قالها صديقه الحميم، مدركا نبضات قلبه متوقعا طمأنينة داخله. لكنه رد قائلا دون تردد ” بأي حق يحرمني حنانه كي أتحمل أنا تبعات عيش قضاه في مستهل حياته؟!”

“هل سعيتَ أنت َ إلى هجر الصمت بينك وبين أبيك يوما ما؟”
“لا، لم اسع إلى ذلك.”
اسع إلى ذلك حتى تساعد والدك على إعادة شعوره بالأسرة وإحساسه بحنان البنوة و لين المحبة، ربما يكون هو في أمس الحاجة إلى من يعيده هذه الشعور الرائعة التي أخذها منه القدر وفقدها في غربة شوارع المهجر. ربما تكون بذلك قد ساعده على استعادة إنسانيته واستلهام مشاعر أبوته.

استمع إلى صديقه مطرقا رأسه إلى التراب، تسرب إلى عقله كيف يتحول التراب إلى الطين اللين بعد أن لعب الماء دوره فيه، حتى عادت إليه سذاجته وفطرته التي خلق الله تعالى عليها أباه الأول آدم عليه السلام. لم يجبه، ربما يكون صديقه محقا فيه، بقي صامتا يردد في ذهنه هل يظل بمقدوره سد الفجوة البعيدة المدى بينه وبين أبيه.. ؟

ثم لم يلبث أن وصل إلى بيته حتى بدأ يفكر في الكلمات التي وعاها من أحمد، ظل يتساءل نفسه حول الخطط التي يتعول عليها في نيل هذه البغية السامية، اجتياز عقبة عانى منها كثيرا. كان أبوه جالسا في غرفة الانتظار، مرتشفا القهوة، كعادته، يشاهد الأخبار السريعة في جواله، اتخذ القرار على التحدث معه ومشاركة أحلامه حتى بدأ يتخيل منظر عودته من الغرفة شامخا منتصرا في مهمته الاستراتيجية الدقيقة، سرعان ما اقترب من الباب وألقى نظرة ضئيلة إلى أبيه حتى رجع القهقرى، طفقت قدماه تضطربان كأنهما وطئتا الأحجار الملتهبة. ثم باء إلى غرفته بالخيبة والندامة معترفا بفشله، قد سئم من عجزه في لحظة تتطلب أكبر من الشجاعة والهمة.

أخذ يطرح نظراته الكئيبة خلال نافذة الغرفة المظلمة إلى الابتسامة المزدرية التي رمتها زهور الربيع الراقصة في ترنم الرياح الصامتة، ماذا يكون أول كلمة يقولها لوالده “كيف حالك أبي؟ ما الذي تشير إليه الأخبار فيما يتعلق بانتخاب البرلمان؟ ” أو يقول له بجلاء “اشتقت لك ولحنانك كثيرا أبي” أجل، هذا ما يرومه بالضبط أن يقول لأبيه، لا يزال يردد هذه الجملة في داخله حتى إذا أراد أن يخرجها من أعماقه تقرع الحروف شفتيه فكأنهما سمّرتا ولم تكادا تفتقان ثم تعود إلى حيث جاءت وتتلاشى في ظلمة داخله. صديقه لا يدري كيف هو الوضع ولا مدى ابتعاد والده منهم، ولا يفتأ يطرح إليه ثلة من الأساليب، رجع كلها بدون طائل يذكر “هل تكللت خطتك بالنجاح في هذه المرة” سأله أحمد في اليوم التالي. “بذلت جهدي، لكن خطتنا باءت بالفشل كعادتها” أجابه مطأطأً رأسه في خجل. “استمر محاولتك، لا يخيبك الله أبدا، سيأتي لك يوم تكون أنت فيه أسعد من في الدنيا” ثم أمطرت الكلمات على التوالي، كلها تحفيزية، وقد دخلت السآمة إلى سمعه من كثرتها،

ركب والده أحد الأيام في دراجته للذهاب إلى مكتبه الجديد في المدينة وهو في طريقه إلى المطار ليودع صديقه أحمد، وقد منحه القدر عملا لائقا في الكويت. أخذت شفتا جابر ترتجفان وتنويان الكلام وكان والده يتكلم مع الطرف الآخر في جواله وهو لا يعلم أين هو، ولم تزل أعماقه تتدفق برغبة وأمل، تدفع من قوته الكلمات إلى الخارج لكن لسانه لم يف بوعده الذي قطعه البارحة حيث تخلف عن ترجمة الكلمات الداخلية للشفة التي تبقى مترقبة، انطوى البعد جدا، كأنه وصل إلى مكتب والده في نصف وقته المعتاد، لم تبلغ الدراجة أمام مكتبه حتى توقفت عفوا ، سرعان ما نزل والده من الدراجة وعمد إلى مكتبه وهو لم يدر شيئا، الأسوأ من هذا أنه لاحظ أباه كيف يتعامل مع شريكه في بشاشة وسذاجة. وبقي قبالة مكتبه هنيهة، ثم توجه إلى المطار كئيبا مفعما بالحزن والأسى، حتى إن وصل أمام حائط الحديقة وقف عنده متأملا، يعرف أن صديقه سينقض عليه بوابل من الأسئلة، كلها لا يزيده إلا ألما وكآبة. فيجيبه بما حدث وكيف فشل في هذه المرة، وراح أحمد يطرح عليه خططا جديدة وهو يدخل إلى المطار، كلها غير مجدية وسيخبر صديقه بأنه سيواصل جهوده ويكرس حياته في سبيل نيل مبتغاه…

Author

  • شهيد أنور النوراني

    باحث في الدراسات الإسلامية الروسية ، الأكاديمية العالمية للبحوث في العلوم المتقدمة، مدينة المعارف، كاليكوت، الهند

باحث في الدراسات الإسلامية الروسية ، الأكاديمية العالمية للبحوث في العلوم المتقدمة، مدينة المعارف، كاليكوت، الهند